التوحيد في التسبيح لا في الوصف
التوحيد مما مضى تبين أنه في التسبيح لا في الوصف ([1])، أي إنّ التوحيد الحقيقي يكون بتنـزيهه سبحانه عن المعرفة بكنهه وحقيقته ، وإنما تكون غاية معرفته هي في معرفة العجز عن المعرفة ، فغاية مايصل إليه الإنسان من الوصف أو الأسماء الذاتية الكمالية هو الوصول إلى هذه المعرفة - اي معرفة العجز عن المعرفة - التي يتجلّى للإنسان من خلالها بوضوح أن التوحيد الحقـيقي في التسبيح ، قال تعـالى : ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُـونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ([2])، وذلك لأن المخلصين يعرفون أن الصفات ترجع في حقيقتها إلى التنـزيه عن النقص أو التسبيح والتقديس ، أي إن ساحته سبحانه وتعالى خالية من النقص ، أي إنه سبحانه وتعالى نور لا ظلمة فيه .
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : ( إن الله علم لا جهل فيه ، حياة لا موت فيه ، نور لا ظلمة فيه ) ([3]).
وعن يونس بن عبد الرحمن ، قال : قلت لأبى الحسن الرضا (عليه السلام) : ( روينا أن الله علم لا جهل فيه ، حياة لا موت فيه ، نور لا ظلمة فيه ، قال (عليه السلام) : كذلك هو ) ([4]).
والحقيقة ، إن معرفة عجزنا عن معرفة اللاهوت هي الممكنة لنا ، ومنها نعرف عجزنا عن معرفة الحقيقة ؛ لأننا لا يمكن أن نعرف عجزنا عن معرفة حقيقته سبحانه إلا من خلال معرفتنا لعجزنا عن معرفة اللاهوت المطلق ؛ لأن اللاهوت المطلق هو المواجه لنا وهو يناسب حالنا ويمكن أن نبحر في ساحة معرفته من خلال نقصنا الذي نعرفه ([5]) ؛ لأن اللاهوت المطلق هو الكمال المطلق الذي نأله إليه ليسد نقصنا ، ولكن هل يمكن مثلاً معرفة العجز عن معرفة الرحمة المطلقة دون أن نعرف رحمة ما ؟ أكيد إن الجواب سيكون : لا .
وبالتالي فلكي نعرف عجزنا عن معرفة الرحمة المطلقة أو ( الرحمن الرحيم سبحانه ) لابد أن نعرف رحمة ما ، وكلما كانت هذه الرحمة التي عرفناها أعظم وكلما كانت معرفتنا بها أعظم كانت النتيجة هي إن معرفة عجزنا عن معرفة الرحمة المطلقة أعظم ، وبالتالي ستكون معرفة عجزنا عن معرفة الحقيقة التي واجهتنا بالرحمة المطلقة أعظم ، فمعرفة الرحمة المطلقة تكون بمعرفة تجليـها في الخلق ، ومعرفة اللاهوت المطلق تكون بمعرفة تجليه في الخلق ، كما أن معرفة الحقيقة تكون بمعرفة اللاهوت المطلق .
إذن ، فلابد لنا من معرفة خلفاء الله في أرضه ؛ لانهم تجلي الله في الخلق ، وبمعرفتهم يعرف الله أي يعرف العجز عن معرفته ، وبالتالي يعرف العجز عن معرفة الحقيقة وهذا هو التوحيد المطلوب من ابن آدم ، وهذا هو سر وعلة بعث الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) الحقيقية أي إن بعثهم ضروريٌ ؛ لأن المعرفة تتم بهم ومن خلالهم .
فهنا تكمن حقيقة التوحيد وهي : إنه هو سبحانه وتعالى إنما تجلى لخلقه باللاهوت المطلق ليعرفوه وبما يناسب حالهم باعتبار أنهم فقراء ويألهون إلى الغني المطلق ليسد نقصهم ، أي إن اللاهوت ليس هو الحقيقة بل هو وجه الحقيقة المناسب للخلق ، فهو ظهوره سبحانه وتعالى لنا لنعرفه ، فاللاهوت ليس الحقيقة بل هو الطريق الموصل لها ولكن هذا لا يعني أن اللاهوت المطلق غيره هو سبحانه وتعالى ؛ لأنه في الحقيقة لا يوجد شيء اسمه لاهوت لولا وجود الخلق ، فهو سبحانه وتعالى لاهوت بالنسبة لنا ؛ لأننا فقراء ونحتاج أن نسد نقصنا فنأله إليه سبحانه وتعالى ، أي إن تجليه هو سبحانه باللاهوت المطلق للخلق ليس إلا ظهوره سبحانه لهم بما يلائم حالهم هم لا أن اللاهوت هو الكاشف الحقيقي والتام عن الحقيقة ؛ إنما هو مُعَرِّف بالحقيقة بما يلائم حال وفقر الخلق .
عن ابن سنان قال : سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) : ( هل كان الله عز وجل عارفاً بنفسه قبل أن يخلق الخلق ؟ قال : نعم ، قلت : يراها ويسمعها ؟ قال : ما كان محتاجاً إلى ذلك ؛ لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها ، هو نفسه ونفسه هو ، قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه ، ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها ؛ لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف ، فأول ما اختـار لنفسه : العلي العظيم لأنه أعلى الأشياء كلها ، فمعناه الله واسمه العلي العظيم ، هو أول أسمائه ، علا على كل شيء ) ([6]).
وتقدم عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَ اشْتِقَاقِهَا اللَّهُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ ، فَقَالَ (عليه السلام) : ( يَا هِشَامُ ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً ، وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً ، وَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ ، وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ ) ([7]).
وكلام الأئمة (عليهم السلام) واضح في الروايات فقط يحتاج الإنسان لتدبر قول الإمام الرضا (عليه السلام) : ( قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه ، ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها ؛ لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف ) ، وقول الامام الصادق (عليه السلام) : ( يَا هِشَامُ ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَ إِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً ) .
ولتتوضح الصورة أكثر لابد أن نعرف أن معرفته سبحانه وتعالى بصفاته معرفة حقيقية وتامة غير ممكنة لأمرين :
الأول : إن الصفات الإلهية جميعاً بل وجامعها وهو اللاهوت - الله - ما هو إلا وجه واجهنا به هو سبحانه وتعالى بما يناسب حالنا ، فاللاهوت ليس الحقيقة بل هو طريق لمعرفة الحقيقة ، فالوقوف عنده واعتبار معرفته هي المعرفة الحقيقية هو تماماً كالوقوف في منتصف الطريق المؤدي إلى الهدف وادعاء الوصول إلى الهدف .
ثانياً: إن الصفات عندما تنسب له سبحانه وتعالى تكون مطلقة ، فكيف يمكن لغير المطلق أن يَعرِف المطلق معرفة تامة في حين أن المعرفة التامة تعني أن العارف بالشيء محيط به ، ولا يحيط بالشيء إلا من هو فوقه أو مساوٍ له على أقل تقدير ، وبالتالي فادعاء إمكان معرفة الصفات الإلهية معرفة تامة تكون بمثابة ادعاء تعدد اللاهوت المطلق وبمثابة جعل العارف - وهو مخلوق - لاهوتاً مطلقاً وهذا باطل ، إذن فما يمكن أن نعرفه من الصفات هو تجلياتها في الخلق ، ومن المؤكد إن أقرب تجلياتها لها هم حجج الله على خلقه وخلفاؤه في أرضه ([8]).
فلو أخذنا الرحمة مثلاً وأردنا أن نعرف كل ما يمكن معرفته عن الرحمة فيمكننا معرفتها من علاقة الأنبـياء والأوصياء مع بقية الخلق ، ولنفرضها تتراوح بين (80 - 99 ) بالمئة ، وكل منهم (عليهم السلام) بحسبه ، ولكنها أبداً لا تكون في أحدهم مئة بالمئة ؛ لأن من يتصف بها حينها سيكون كمال لا نقص فيه وغنى لا فقر معه ، أي إنه نور لا ظلمة فيه وهذا هو سبحانه وليس خلقه ، وبالتالي تبقى معرفتنا بالرحمة مهما بلغت غير تامة وغاية ما توصلنا إليه هو معرفة العجز عن معرفة الرحمة المطلقة .
وهذا يعني باختصار أنها معرفة تعتمد على نفي النقص ([9])، أي إنها معرفة تعتمد على التنزيه أو التسبيح ولهذا قلت وقدمت بأن التوحيد في التسبيح لا في الوصف .
وأيضاً هي معرفة بالنسبة لعامة الخلق مرتبطة بخلفاء الله في أرضه ، فبهم يعرف الله وبهم يكون التوحيد ، فبرحمتهم تعرف رحمته المطلقة ، وبربوبيتهم في الخلق تعرف ربوبيته المطلقة ، وبلاهوتهم في الخلق يعرف لاهوته المطلق سبحانه ، ومن دونهم لا معرفة ولا توحيد عند بقية الخلق .
فالتوحيد إذن مرتبط بخلفاء الله إرتباطاً وثيقاً بل لو دققنا في الأمر لعلمنا مما تقدم أن المعرفة والتوحيد غير ممكنة لبقية الخلق ، لولا المخلوق الاول أو العقل الأول أو محمد (صلى الله عليه وآله) الذي عَرَّف الخلق به سبحانه وتعالى .
عن عبد السلام بن صالح الهروي ، عن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليـه مني ، قال علي (عليه السلام) : فقلت : يارسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل ؟ فقال : يا علي ، إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك ، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا .
يا علي ، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا ، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ، ولا السماء ولا الأرض ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة ، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه ، لأن أول ما خلق الله عزوجل خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده .
ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا ، فسبحنا لتعلم الملائكة إنا خلق مخلوقون ، وأنه منزه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا ، لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وإنا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلا الله ، فلما شاهدوا كبر محلنا كبّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به ، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العز والقوة قلنا : لا حول ولا قوة إلا بالله لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله ، فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا : الحمد لله لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمتـه ، فقالت الملائكة : الحمد لله ، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده .
ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراما ، وكان سجودهم لله عزوجل عبودية ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون ، وإنه لما عرج بى إلى السماء أذّن جبرئيل مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى ، ثم قال لي : تقدم يا محمد ، فقلت له : يا جبرئيل أتقدم عليك ؟ فقال : نعم ؛ لأن الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه على ملائكته أجمعين ، وفضّلك خاصة ، فتقدمت فصليت بهم ولا فخر ، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل : تقدم يا محمد ، وتخلف عني ، فقلت : يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني ؟ فقال : يا محمد ، إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربي جل جلاله .
فزج بي في النور زجة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علو ملكه ، فنوديت : يا محمد ، فقلت : لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت ، فنوديت : يا محمد أنت عبدي وأنا ربك فإياي فاعبد وعلي فتوكل ، فإنك نوري في عبادي ورسولي إلى خلقي وحجتي على بريتي ، لك ولمن اتبعك خلقت جنتي ، ولمن خالفك خلقت ناري ، ولأوصيائك أوجبت كرامتي ، ولشيعتهم أوجبت ثوابي .
فقلت : يا رب ، ومن أوصيائي ؟ فنوديت : يا محمد ، أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي ، فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش فرأيت اثنى عشر نوراً ، في كل نور سطر أخضر عليه إسم وصي من أوصيائي ، أولهم : علي بن أبي طالب ، وآخرهم مهدي أمتي ، فقلت : يا رب هؤلاء أوصيائي من بعدي ؟ فنوديت : يا محمد ، هؤلاء أوليائي وأوصيائي وحججي بعدك على بريتي ، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك ، وعزتي وجلالـي ، لأظهرن بهم ديني ولأعلين بهم كلمتي ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأمكننه مشارق الأرض ومغاربها ، ولأسخرن له الرياح ، ولأذللن له السحاب الصعاب ، ولأرقينه في الأسباب ، ولأنصرنه بجندي ، ولأمدنه بملائكتي حتى تعلو دعوتي ويجتمع الخلق على توحيدي ، ثم لأديمن ملكه ، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة ) ([10]).
[1] - تقدم كلامي في الصمد وإنه تنزيه وتسبيح للذات وبيان لكمالها المطلق من خلال نفي النقص عنها .
[2]- الصافات : 159-160.
[3]- التوحيد – الشيخ الصدوق : ص137.
[4]- التوحيد – الشيخ الصدوق : ص138.
[5]- قال الصادق (عليه السلام) : ( العبودية جوهر كنهها الربوبية ) مصباح الشريعة : ص7 ، التفسير الصافي : ج6 ص348 ، وفيه [ جوهرة ] وغير ذلك من المصادر.
[6]- الكافي : ج1 ص113.
[7]- الكافي : ج1 ص87 ح2.
[8] - تقدم القول : ( أي إن بعثهم ضروريٌ لأن المعرفة تتم بهم ومن خلالهم ) .
[9]- فلو فرضنا أن العدل يقابله الظلم وفرضنا أن أحد خلفاء الله في أرضه مثلاً تجلي العدل فيه بنسبة 99 بالمئة ويبقى الواحد بالمئة هي نسبة الظلم في صفحة وجوده ، وأننا تمكنا من معرفة هذا الخليفة من خلفاء الله في أرضه معرفة تامة ، فنكون قد عرفنا العدل بنسبة 99 بالمئة وعرفنا الظلم المتضمن في صفحة وجوده ، فالآن إذا أردنا أن نصف العدل المطلق اعتماداً على معرفتنا هذه فلا يسعنا أن نقول عن العدل المطلق ، غير أنه عدل لا ظلم فيه أي إننا اعتمدنا في معرفتنا العدل المطلق على نفي الظلم عن ساحة العدل المطلق ، وهذا النفي للظلم بين لنا بوضوح تام عجزنا عن معرفة العدل المطلق .
[10]- علل الشرائع - الشيخ الصدوق : ج1 ص5 ، كمال الدين وتمام النعمة : ص255.