﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾:
كان فقدان الحوت عند الصخرة آية من الله سبحانه وتعالى نُبه من خلالها موسى (عليه السلام) إلى أنه تجاوز المطلوب، ولم تكن بالأصل آية عند موسى(عليه السلام) أي إن موسى لم يكن يعلم أن فقدانه للحوت هو علامته على العبد الصالح وإلا لما طلب من يوشع أن يأتيه بالحوت ليأكله كطعام، فكيف يمكن أن يعقل أحد أن يأكل موسى(عليه السلام) الآية التي تدله على المطلوب وهو يعلم أنها آيته التي توصله إليه وخصوصاً أنه مأمور من الله بالوصول إلى العبد الصالح وإتباعه، أما قول موسى(عليه السلام) : ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ فأراد به العبد الصالح الذي رأوه عند الصخرة.
والأمر كالتالي فمن له أذنان للسمع فليسمع ومن له قلب للفهم فليفهم: الله سبحانه وتعالى يتكلم في كل شيء ولكن الناس غافلون ملتفتون إلى أنفسهم وأهوائهم، فليس الطريق الوحيد لكلام الله مع الأنبياء هو الوحي أو إسماعهم ألفاظاً في آذانهم أو معاني في قلوبهم، بل هناك الطريق الأعظم وهو (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله معه وقبله وبعده)، فموسى (عليه السلام) عندما وجد أنهما فقدا الحوت عند الصخرة علم أنها آية من الله سبحانه، وإلا فهما في شدة التعب والجوع ﴿قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ فلماذا تكون مشيئة الرب الرؤوف الرحيم هنا أن يفقدا طعامهما؟؟! هنا عرف موسى (عليه السلام) ماذا أراد الله أن يخبره وسمع كلام الله في هذا الحدث وهو أن طعامك الذي جئت في طلبه (العلم) موجود حيث فقدت طعامك المادي (الحوت) ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾، علم موسى(عليه السلام) أن العبد الذي مرَ به عند الصخرة هو العبد الصالح الذي جاء يطلبه ليتعلم منه.
وكما كان فقدان الحوت آية ودليلاً على طعام الروح الذي يحمله العبد الصالح، كانت حياة الحوت واتخاذه سبيله في البحر بسرعة وخفاء (سرباً) وأيضاً بمعجزة إلهية (عجباً) - يحق للعبد أن يعجب منها لما يرى من قدرة الله سبحانه وتعالى - آية ودليلاً على العبد الصالح، لأنّ الله جعل حياة الحوت حيث كان العبد الصالح مستلقياً للإشارة إلى أن العبد الصالح (مجمع البحرين) الذي جاء موسى (عليه السلام) يطلب منه العلم والمعرفة هو عين الحياة حيث إنّ العلم والمعرفة - المتعلقة بالآخرة - هي الحياة الحقيقية ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾([1])، أي ليعرفون ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾([2]).
عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: (إن موسى صعد المنبر وكان منبره ثلاث مراق فحدث نفسه أن الله لم يخلق خلقاً أعلم منه، فأتاه جبرئيل فقال له: إنك قد ابتليت فانزل فإن في الأرض من هو أعلم منك فاطلبه، فأرسل إلى يوشع أني قد ابتليت فاصنع لنا زاداً وانطلق بنا .....
قال: فبينما هما يمشيان انتهيا إلى شيخ مستلقٍ معه عصاه، موضوعة إلى جانبه وعليه كساء إذا قنع رأسه خرجت رجلاه وإذا غطى رجليه خرج رأسه، قال: فقام موسى يصلي وقال ليوشع: احفظ علي، قال: فقطرت قطرة من السماء في المكتل فاضطرب الحوت، ثم جعل يثب من المكتل إلى البحر، قال: وهو قوله: ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾، قال: ثم إنه جاء طير فوقع على ساحل البحر ثم أدخل منقاره فقال : يا موسى ما اتخذت من علم ربك ما حمل ظهر منقاري من جميع البحر.
قال: ثم قام يمشي فتبعه يوشع، قال: موسى وقد نسي الزبيل يوشع، قال: وإنما أعيا حيث جاز الوقت فيه فقال: ﴿آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً﴾ إلى قوله: ﴿فِي الْبَحْرِ عَجَباً﴾، قال: فرجع موسى يقفي أثره حتى انتهى إليه وهو على حاله مستلقٍ، فقال له موسى: السلام عليك ، فقال: وعليك السلام يا عالم بني إسرائيل، قال: ثم وثب فأخذ عصاه بيده قال فقال له موسى: إني قد أمرت أن أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً فقال كما قص عليكم: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ )([3]).
[1]- الذاريات: 56.
[2]- العنكبوت: 64.
[3]- العياشي: ج2 ص332.